جريدة الكترونية تأسست
1/1/2015
الرئيسية / اقتصاد / سوليدير تهبُ الأملاك العامة
28-08-17-p06_20170828_pic1

سوليدير تهبُ الأملاك العامة

في جلسته المنعقدة في القصر الجمهوري في 21 حزيران الماضي، وافق مجلس الوزراء على طلب وزارة الثقافة «قبول هبة عينية مقدّمة لصالحها من شركة سولدير، والمتمثلة بالعقار رقم 1500/ المرفأ، لإنشاء متحف مدينة بيروت»! مرّ هذا الخبر من دون أن يثير أيّ اهتمام، علماً أنها من المرّات النادرة جدّاً التي يبحث فيها مجلس الوزراء أمراً يتصل بوسط بيروت يصبّ في «المصلحة العامّة» لا في مصلحة الشركة الخاصة، وربما هي المرّة الوحيدة التي يكون فيها مجلس الوزراء في موقع «الأخذ» من الشركة وليس «العطاء»… فما هي قصّة هذه «الهبة»؟ وهل تنازلت شركة «سوليدير» للدولة عن ملكيتها للعقار 1500؟ الوثائق والوقائع المتعلقة بهذا الملف تكشف عن عملية تزوير كبيرة للحقيقة، فالعقار المذكور هو ملك الدولة أصلاً والشركة لم تتبرع أطلاقاً من كيسها وإنما من كيس الدولة وأصحاب الحقوق!

شركة «سوليدير» قدّمت قطعة أرض «هبة» إلى الدولة لإنشاء «متحف تاريخ بيروت». خبر يسترعي الانتباه والتدقيق. لم يسبق أن أظهرت هذه الشركة الخاصة مثل هذا «السخاء» وذاك «الاهتمام»، فهي قامت أصلاً على مصادرة أملاك أصحاب الحقوق في وسط بيروت والاستيلاء على الأملاك العمومية والأراضي المستحدثة من ردم البحر على الواجهة البحرية… وتعمل بكلّ ما ملكت من قوة ونفوذ وعنجهية للتلاعب بذاكرة المكان وطمس تاريخه وتاريخ ناسه وتغيير أسماء مطارحه…

هذا ما تؤكّده عمليات تدمير الآثار أو دفنها أو نقلها أو تبخيس قيمتها تجاه «سمو الملكية العقارية الخاصة»، كما تؤكده نضالات بعض أصحاب الحقوق ضد الشركة العقارية، المستمرة منذ ربع قرن، الذين استفاقوا في نهاية الحرب الأهلية على قانون يصادر أملاكهم ويحوّلها من أكثر أنواع الملكية ثباتاً وربحية إلى ملكية أسهم قليلة في شركة خاصة ضخمة يسيطر عليها عدد من اللاعبين، وهي أكثر أنواع الملكية هشاشة وتذبذباً.
رغم أن هذه الصورة واضحة وراسخة في الأذهان، جاء قرار مجلس الوزراء رقم 26 الصادر في 21/6/2017، ليشوشها ويُظهر الشركة «المكروهة» في مظهر الحريص على المساهمة «الإيجابية» في عمل مطلوب يصبّ في «المصلحة العامة». ينص القرار على أن الشركة «تبرعت بقطعة أرض مساحتها 5272 متراً مربعاً لمساعدة وزارة الثقافة على إنشاء متحف تاريخ مدينة بيروت… كيف ذلك إذا كان العقار 1500 موضوع «الهبة» هو أصلاً ملك للدولة بحسب ما تُظهره الوقائع والمستندات؟

القرار الخديعة

بالاستناد إلى محضر جلسة مجلس الوزراء (رقم 32) المنعقدة في القصر الجمهوري بتاريخ 21/6/2017، يتبيّن أن قراراً (رقم 26) صدر في هذه الجلسة، ويقضي بالموافقة على «طلب وزارة الثقافة قبول هبة عينية مقدمة لصالحها من شركة سوليدير والمتمثلة بالعقار رقم 1500/ المرفأ لإنشاء متحف تاريخ مدينة بيروت».
ماذ جاء في نص القرار حرفياً؟
يستند هذا القرار إلى: قانون المحاسبة العمومية. المرسوم الاشتراعي رقم 64 (إعفاء الهبات المقدمة إلى الإدارات العامة من جميع الرسوم). المرسوم رقم 16163 (تعديل نظام البناء في القطاعين I وH في وسط بيروت). المرسومان 5052 و5053 (الموافقة على إبرام مذكرة تفاهم بين وزارة الثقافة والصندوق الكويتي للتنمية بشأن المساهمة في تمويل مشروع بناء متحف تاريخ بيروت). قرار مجلس الوزراء رقم 27 تاريخ 27/10/2011 (عدم قبول أي هبة لا تتوافق وأحكام القوانين والأنظمة). وأخيراً كتاب وزارة الثقافة رقم 1692/2017 تاريخ 5/6/2017 ومرفقاته.
يقول القرار إن «مجلس الوزراء اطلع على المستندات المذكورة أعلاه»، وتبيّن له أن الدولة اللبنانية ممثلة بوزارة الثقافة ومجلس الإنماء والإعمار وبلدية بيروت والصندوق الكويتي للتنمية وقعت مذكرة تفاهم مع شركة «سوليدير»، استناداً إلى المرسومين رقم 5052 و5053، للمساهمة في تمويل مشروع بناء «متحف تاريخ مدينة بيروت». وإن هذين المرسومين أناطا بوزارة الثقافة «اتخاذ الإجراءات كافة اللازمة لتسهيل تنفيذ بنود الاتفاقية والمساعدة في اكتساب ملكية الأراضي واستصدار التراخيص اللازمة لتنفيذ بناء المتحف». وتبين لمجلس الوزراء أيضاً أنه «بوشر بالفعل بالأعمال التحضيرية لتنفيذ المشروع»!
يتابع نص القرار: «ولما كانت شركة سوليدير قد تنازلت عن ملكية العقار رقم 1500/ المرفأ لدى أمانة السجل العقاري، لإسقاطه للأملاك العامة وإعادة تكوين عقار خاص آخر على المساحة المحددة من 1 الى 6 وفقاً للمخطط التفصيلي لمنطقة وسط بيروت لا سيما القطاع التنظيمي (H) والمصدق بالمرسوم رقم 16163 تاريخ 19/1/2006 لإنشاء متحف تاريخ مدينة بيروت وتسجيله على اسم الإدارة المعنية. لذلك، فإن الوزارة تعرض الموضوع على مجلس الوزراء مقترحة الموافقة على قبول الهبة العينية المقدمة من شركة سوليدير والمتمثلة بالعقار 1500/ المرفأ تمهيداً لوضع الاتفاقية الموقعة لهذه الغاية موضع التنفيذ، ومتابعة المعاملات كافة المتعلقة بها لا سيما متابعة موضوع تكوين العقار مع السجل العقارية وتسجيل ملكيته على اسم وزارة الثقافة». بناء عليه، وبعد المداولة، «قرر المجلس الموافقة على اقتراح وزارة الثقافة المبين أعلاه».

توضيحات مجلس الإنماء والإعمار

لم يحصل سابقاً الادّعاء أنّ إعادة الأملاك العامّة إلى الدولة هي بمثابة «هبة»

جاء قرار مجلس الوزراء من دون أيّ تدقيق في الوقائع المتعلقة بالعقار 1500/ المرفأ، فهذا العقار لم يكن يوماً ملك شركة سوليدير حتى تتبرّع به. إذ بناء على طلب «الأخبار»، واستناداً الى القانون رقم 28 (الحق في الوصول الى المعلومات)، ردّ رئيس مجلس الإنماء والإعمار، نبيل الجسر، خطياً وقدّم التوضيحات الآتية:
– إن العقار رقم 1500/ المرفأ هو بملكية شركة سوليدير منذ تأسيس الشركة في عام 1994، وذلك عملاً بالقانون رقم 117/91 وبالمراسيم العائدة لتأسيس هذه الشركة والتي تنصّ على أن تنتقل ملكية جميع العقارات الواقعة ضمن المنطقة المحددة لوسط بيروت الى الشركة العقارية.
– يحدد المخطط التفصيلي لمنطقة وسط بيروت الأملاك العمومية من طرقات وساحات عامّة، وتقوم شركة سوليدير تباعاً بعد تنفيذ أشغال الطرقات والبنية التحتية فيها وفي الأملاك العمومية بإعادة تكوين العقارات الخاصة القابلة للبناء وبإسقاط الأملاك العمومية من ملكيتها الخاصة عملاً بالقوانين المرعية الإجراء.
– بالنسبة للعقار رقم 1500/ المرفأ، فإن المرسوم 16163/2006 يلحظ تكوين عقار خاص يقع جزء منه ضمن العقار رقم 1500/ المرفأ وجزء آخر ضمن الأملاك العمومية، وذلك لإنشاء متحف بيروت التاريخي. وبعد قيام شركة سوليدير بإنجاز أشغال البنية التحتية في شارع غسان تويني (الممتد من شمالي ساحة الشهداء الى جادة شفيق الوزان) بحسب المراسيم المصدقة في المنطقة المذكورة وبعد طلب وزارة الثقافة بالإسراع في تكوين العقار المذكور لتمكينهم من الاستحصال على التراخيص اللازمة لبناء المتحف، قامت شركة سوليدير في شهر كانون الأول من عام 2016 بالطلب من أمانة السجل العقاري في بيروت بإسقاط كامل العقار 1500/ المرفأ من ملكيتها لصالح الأملاك العمومية. وبإعادة تكوين عقار جديد (جزء منه ضمن العقار 1500/ المرفأ وجزء آخر ضمن الأملاك العمومية) يُخصّص لإنشاء متحف مدينة بيروت التاريخي (بملكية الادارة الرسمية التي يرتأيها مجلس الوزراء)، وذلك عملاً بالمخطط التفصيلي المصدق أصولاً.
– أخيراً، تقوم وزارة الثقافة بمتابعة موضوع تكوين العقار الجديد المخصص لإنشاء المتحف مع الجهات المعنية بهذا الخصوص.
بحسب الوقائع المتاحة حتى الآن، يتبين ما يلي:
إن المرسوم 16163 الصادر في عام 2006، ينصّ على أن العقار 1500/ المرفأ هو ملك للدولة اللبنانية في الأصل. لحظ هذا المرسوم «تكوين عقار خاص (أملاك الدولة الخاصة) يقع جزء منه ضمن العقار رقم 1500/ المرفأ وجزء آخر ضمن الأملاك العمومية (أملاك الدولة العامة) وذلك لإنشاء متحف بيروت التاريخي». أي إن الشركة لم تقدّم أي هبة من كيسها بل أعادت ملك الدولة للدولة كما هو مقرّر منذ البداية.
إذاً، لماذا هذا العقار مسجّل على اسم سوليدير في الصحيفة العقارية؟ الإجابة بسيطة جداً وفق توضيحات مجلس الإنماء والإعمار. عملاً بالقانون رقم 117 الصادر في عام 1991 وبالمراسيم العائدة لتأسيس شركة سوليدير، جرى نقل ملكية جميع العقارات الواقعة ضمن المنطقة المحددة لوسط بيروت إلى الشركة العقارية، على أن تقوم هذه الشركة تباعاً بإعادة تكوين العقارات وإسقاط الأملاك العمومية من ملكيتها الخاصة «عملاً بالقوانين المرعية الإجراء». وهذا يعني من جملة ما يعنيه «إن العقار 1500/ المرفأ تم وضعه بملكية سوليدير عند تأسيسها في عام 1994 «مؤقتاً» ريثما تقوم بتنفيذ أشغال الطرقات والبنى التحتية وثم تعيده إلى الدولة بوصفها المالك النهائي للعقار»!
اللافت أن مجلس الوزراء يدرك هذه الحقيقة باسناد قراره إلى المخطط التفصيلي لمنطقة وسط بيروت، الذي يكرس العقار المذكور كجزء من الأملاك العامة والخاصة للدولة. كما أن مجلس الوزراء يدرك أنه «قد بوشر بالفعل بالأعمال التحضيرية لتنفيذ مشروع المتحف» قبل وقت طويل من قراره قبول «هبة» من شركة سوليدير، وهو ما يطرح إشكالية مهمّة: كيف بوشر بالأعمال قبل نقل ملكية العقار من شركة سوليدير الى وزارة الثقافة؟
تتبع وضعية العقار المذكور في السجل العقاري يعطي جواباً مثيراً، فقد جرى إسقاط العقار 1500/ المرفأ الى ملكية الدولة بتاريخ 31/12/2016، أي قبل 6 أشهر تقريباً من صدور قرار مجلس الوزراء بقبول «الهبة» المزعومة. وقد جرى التدوين على الصحيفة العقارية «تصحيح الوضع العقاري القائم على هذا العقار عبر إسقاط العقار رقم 1500/ المرفأ لمصلحة الأملاك العمومية». إن استعمال مفردة «تصحيح» يعني إعادة الوضع الى نصابه القانوني، أي إن العقار هو أصلاً بملكية الدولة، ويشمل أيضاً «إعادة تكوين عقار خاص آخر على المساحة المحدّدة بالأرقام من 1 إلى 6». أي إن سوليدير، وبطلب من وزارة الثقافة، ستعمل على اقتطاع مساحة من العقار 1500 وحدودها مبنية على الخريطة بالأرقام من 1 إلى 6 من أجل تكوين عقار جديد يبنى عليه متحف تاريخ مدينة بيروت. يثير قرار مجلس الوزراء الريبة، ويطرح علامات استفهام كثيرة حول ما يُخطط له على العقار 1500/ المرفأ ومحيطه. لم يحصل سابقاً الادّعاء بأن إعادة الأملاك العامة إلى الدولة هي بمثابة «هبة». فالعقار المذكور يشكّل الجزء الأهم من منطقة التل الكنعاني الذي كان موضوعاً من قبل وزارة الثقافة ضمن لائحة الجرد العام بقرار الوزير كابي ليون رقم 71، أي أنه عقار لا ينتج أيّ مساحة مبنية. وهذا الأمر واضح على الخريطة المرفقة بالمرسوم 16163 للقطاع (H) التي تشير إلى أنه «يمكن تخصيص الجزء المحدّد بالأرقام من 1 إلى 6 من الأملاك العامة لبناء متحف شرط ألا يتجاوز ارتفاعه الأقصى عن مستوى الطريق المحاذية له من الجنوب باستثناء مساحة لا تتجاوز 30% من مساحة هذا الجزء حيث يمكن زيادة الارتفاع الأقصى إلى 15 متراً فوق مستوى الطريق المحاذية له، ويخضع تصميم البناء على هذا الجزء لموافقة الشركة العقارية (سوليدير) ومن ثم المجلس الأعلى للتنظيم المدني ولا تحتسب مساحة البناء هذا من ضمن المساحات المبنية الصافية للوسط التجاري».
هل الهدف ينحصر فقط بتلميع صورة سوليدير؟ هل انطلى الأمر على مجلس الوزراء مجتمعاً رغم وضوح الأمر وسهولة الاستقصاء عن ملكية العقار الأصلية؟

هل نفّذت سوليدير التزامها بـ 30 مليون دولار؟

لم تحصل الدولة اللبنانية على أي «هبة عينية» من سوليدير. إدارة الشركة نفسها تعلم ذلك، فقد ورد في تقرير مجلس الإدارة عن عام 2010 أنها «تقوم بالتنسيق مع وزارة الثقافة ومجلس الإنماء والإعمار بالإعداد لإنشاء متحف تاريخ مدينة بيروت ليجمع الآثار والمكتشفات المنقب عنها في وسط بيروت. سيحتلّ موقعه شمال ساحة الشهداء في جوار منطقة التلّ الكنعاني التي سيجري ترميمها وتنسيقها بهدف إبراز معالمها الأثرية القديمة. ستساهم دولة الكويت بمبلغ 30 مليون دولار أميركي لبناء المتحف، وستساسهم شركة سوليدير بمبلغ مماثل لتنفيذ أشغال تنسيق وترتيب منطقة التلّ الكنعاني المحيطة بالمتحف. وقد جرى تكليف المهندس المعماري رنزو بيانو بإعداد تصاميم المتحف وذلك بالتعاون مع وزارة الثقافة». وبصرف النظر عن مدى التزام سوليدير بما ورد في هذا التقرير، إلا أنه من الواضح أن الشركة لديها علم باختيار قطعة الأرض في منطقة التلّ الكنعاني لبناء متحف ولكن إنجاز الأعمال فيها تطلب وقتاً بسبب دراسة المنطقة أثرياً.

(الاخبار)