خاص Lebanon On Time _ خالد أبو شام
طرابلس تُعاقَب مجدداً. المدينة التي لم تنَل يوماً حقَّها في الإنماء، تجد نفسها اليوم تحت مقصلة قرارٍ جديدٍ صادرٍ عن وزير المالية ياسين جابر، يقضي بتعطيل مرفئها الحيويّ بذريعة التحقيق في قضية فساد. وكأنّ مكافحة الفساد لا تتمّ إلّا بإيقاف الشريان الاقتصادي الوحيد المتبقّي في وجه الفقر والبطالة، وكأنّ العدالة لا تُمارَس إلّا على حساب مدينةٍ أنهكتها الوعود وأتعبها الإهمال.
قرارُ الوزير لا يطال موظفاً أو دائرةً محدّدة، بل يطال مدينةً كاملة، وأرزاق مئات العائلات، وتُجّاراً ينتظرون بضائعهم، وعمّالاً يعيشون يوماً بيوم. مرفأ طرابلس ليس مجرّد منشأةٍ عامّة، بل رئةُ الشمال الذي يختنق كلّما قرّر أحدهم أن يُمارس وصايتَه المركزية عليه. إنّه المنفذ الوحيد الذي بقي لطرابلس على العالم، والباب الذي يُغلَق كلَّ مرّةٍ باسم الإصلاح، ليُفتَح في وجه الصفقات والمنافع في أماكنَ أخرى.
من حقّ اللبنانيين أن يسألوا: لماذا حين تُكتشف مخالفاتٌ في مؤسسات بيروت تُطوى الملفاتُ بهدوء، وحين يُذكَر اسمُ طرابلس تُرفَع الأختامُ ويُعلَّق العملُ فوراً؟ لماذا دائماً يُمارَس القانونُ في طرابلس بوجهٍ قاسٍ، بينما يُطبَّق في سواها بوجهٍ ناعم؟ أيُّ عدالةٍ هذه التي تُعاقب المرفأَ بدل أن تُحاسب الفاسدين؟ وأيُّ دولةٍ تلك التي تساوي بين الخطأ والمصلحة العامة، فتجعل الثانية رهينةً للأولى؟
طرابلس لا تحتاج إلى وصايةٍ جديدة، بل إلى إنصافٍ حقيقيّ. لا تطلب حمايةً من أحد، بل تطلب أن يُكفَّ عنها هذا العبث الممنهج الذي يُحوّلها كلَّ مرّةٍ إلى ساحةٍ للتجارب الإدارية والسياسية. المدينةُ التي صبرت على التهميش لعقود، والتي لم تُعطَ يوماً حصّتَها من مشاريع الدولة، تُقابَل اليوم بالعقوبة بدل التعويض، وبالإقفال بدل الدعم.
كلّ ما أرادته طرابلس أن يكون مرفأها بديلاً وطنيّاً بعد كارثة بيروت، وأن يكون مساحةَ تنفّسٍ للاقتصاد اللبنانيّ كلّه، لا لشمالها فقط. لكنّ القرار جاء ليقول بصوتٍ واضحٍ إن لا مكان لطرابلس في خريطة الأولويات، وإنّ التنمية فيها تظلّ مؤجَّلةً حتى إشعارٍ آخر. قرارٌ يُعيد إنتاج المركزية ذاتها التي خنقت المرفأ سنواتٍ طويلة، ويُكرّس منطق السلطة التي لا ترى في طرابلس سوى هامشٍ يمكن تجميدُه متى شاءت.
الحديث عن الفساد لا يُبرّر إعدامَ المرافق العامة، والإصلاح لا يبدأ من البوّابة التي تفتح للناس رزقهم. كان يمكن التحقيقُ والمحاسبةُ وملاحقةُ المتورّطين دون تعطيل الحياة في المدينة. لكن يبدو أنّ القرار لم يُتَّخَذ لمكافحة الفساد بقدر ما اتُّخِذ لتذكير طرابلس بموقعها في سلّم الاهتمام الرسمي، ولتأكيد أنّ الإنماء في لبنان لا يُوزَّع بعدل، بل يُمنَح بميزان السياسة والمصلحة.
طرابلس اليوم تقف في وجه سلطةٍ تمارس العقاب باسم القانون، وتُدير الحرمان باسم الإصلاح. ومع كلّ قرارٍ مماثل، تتأكّد القاعدة القديمة: في لبنان، تُعاقَب المدن الفقيرة لأنّها فقيرة، وتُكافَأ المدن الغنية لأنّها تملك الصوت الأعلى. مرفأ طرابلس ليس ملفّاً في درج وزارة، بل قضيةُ كرامةِ مدينةٍ بكاملها. ولن يكون الإقفال وسيلةَ إصلاح، بل وصمةً جديدةً على جبين دولةٍ لا تعرف كيف تُنصف أبناءها، ولا كيف تُدير مرافئها إلّا بقراراتٍ تُشبه الانتقام أكثر ممّا تُشبه العدالة.