جريدة الكترونية تأسست
1/1/2015
الرئيسية / أبرز الأخبار / عون: ليتحصن القاضي بضمانات مادية ومعنوية والأهم استقلالية السلطة الدستورية
5d00fc7e327bf_JUSTICE1

عون: ليتحصن القاضي بضمانات مادية ومعنوية والأهم استقلالية السلطة الدستورية

أقيم في قاعة محكمة التمييز في قصر العدل في بيروت، احتفال رسمي لمناسبة اليوبيل المئوي لتأسيس محكمة التمييز.

وحضر الاحتفال رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، رئيس مجلس النواب نبيه بري، رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري، الرئيس أمين الجميل، الرئيس حسين الحسيني، وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية سليم جريصاتي، وزير العدل البيرت سرحان، رئيس مجلس القضاء الاعلى القاضي جان فهد، اعضاء مجلس القضاء الاعلى ورؤساء غرف محكمة التمييز، وزراء العدل السابقون بهيج طبارة، عدنان عضوم، خالد قباني، ابراهيم نجار، الوزير السابق رشيد درباس، الامين العام لمجلس الوزراء القاضي محمود مكية، رؤساء مجلس القضاء الاعلى السابقون رئيس ديوان المحاسبة القاضي احمد حمدان والمدعي العام لدى ديوان المحاسبة القاضي فوزي خميس، رئيس التفتيش المركزي القاضي جورج عضيمي، المدير العام لقوى الامن الداخلي اللواء عماد عثمان، المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، نقيب المحامين في بيروت اندره الشدياق، نقيب المحامين في الشمال محمد المراد، ممثلون عن محاكم التمييز في الدول الفرنكوفونية وممثلون عن محاكم التمييز في الدول العربية وعدد كبير من القضاة.

افتتح الاحتفال بالنشيد الوطني، ثم كلمة لعريفة الاحتفال القاضية رولا جدايل التي رأت أن “حملات الاستهداف والتشكيك في القضاء لن تنال من عزم السلطة القضائية في إحقاق الحق”.

وأشارت الى أن “محكمة التمييز ولدت في ربوع وطن حمى سيف الحف مواطنوه وكيانه”.

الشدياق
ثم ألقى الشدياق كلمة باسم نقابتي بيروت والشمال قال فيها: “في زمن المئويات، تتتالى الإحتفاليات به، بدءا من مئوية نقابة المحامين في بيروت، فمئوية اليوم، وبعد عام وبضعة أشهر مئوية إعلان دولة لبنان الكبير، وصولا بعد سنتين إلى مئوية نقابة المحامين في طرابلس والتي شرفني نقيبها الزميل الأستاذ محمد المراد بإلقاء كلمتها هذه الصبيحة فكانت هذه الكلمة الموحدة لنقابتينا”.

أضاف: “صاحب الفخامة، يشاء القدر ان تكون ولايتكم الرئاسية شاهدة على هذه المناسبات وغيرها، إستذكارا للمرحلة الأخيرة التي توجت منذ قرن التكوين التاريخي للكيان الدستوري والقانوني والسياسي للأمة اللبنانية. وإذا كان الزمن يترهل ويتراخى، ومعه تتلاشى وتتداعى الذاكرة، فمن دواعي السرور، التوكيد على التراشح بين رسالة المحاماة ووظيفة القاضي المنبثقة من السلطة القضائية الدستورية المستقلة الحاكمة بإسم الشعب اللبناني مصدر السلطات، وإستبيان واقعين تاريخيين دامغين:

الواقع الأول:
إن أكثر من ثلثي الثمانية عشر رئيسا لمحكمة التمييز مارسوا المحاماة قبل دخولهم السلك القضائي، و/أو بعد تقاعدهم من الوظيفة القضائية. فلغياب من إرتحل منهم دون أن يرحل عنا مهابة الحضور، وأمد الله بحياة الرؤساء الخمسة الباقين في دنيانا. كلهم أعلام، كلهم ضباط إجتهاد وصناع وناظمون له، زمانهم القضائي حملهم إلى صدارة عن جدارة، هامات أفنت العمر وأضنى سهر الليالي عيونهم بحثا في الكتب والمجلدات لإعلان حق بشساعة معرفة ورزانة علم وعزم لا يلين، وصوتا لعدالة لا يستقيم حكم ولا تنهض دولة بدونها.

ألم يتوجه أول مفوض سام فرنسي Georges Picot العامل دون كلل على إقامة السلطة القضائية إبان الإنتداب، عام 1918، إلى رئيس محكمة الإستئناف وقتذاك نجيب أبو صوان، عشية إنشاء محكمة التمييز التي كان هذا الأخير أول من ترأسها، بالقول:
“Avant d’établir les architectures politiques du Liban, la France considère qu’il est plus important de structurer la magistrature qui devra en être le fondement et la garantie morale …”

والواقع الثاني:
عندما ألغيت محكمة التمييز مرتين، ما بين 1930 و1934 وما بين 1939 و1950، جرد فؤاد رزق، المحامي المحمول فيما بعد 1956 الى السدة النقابية الأولى في نقابة بيروت، حملة عنيفة ضد إجتهاد فاضح وتناقض واضح في الأحكام والقرارات القضائية، ألحقا الضرر بمصالح المتداعين وهدرا حقوقهم الركينة، مطالبا بإعادة محكمة التمييز إلى حيز الوجود.

وتابع: “واليوم، وفيما الخواطر والتأملات تدركني وانا أنظر إلى براكين الإختراعات تنفجر في كل ميدان وتفور من كل حدب وصوب في زمن بات فيه كوكبنا مختبرا تثور فيه الإكتشافات،

وفيما يرى أصحاب أبحاث، إستشرافا للأعوام العشرين القادمة، أن ثلاثين إلى أربعين بالماية من المهن التي نعرفها قد تكون مهددة بالإندثار، من نحو أول، وفي ضوء ما كتبه، من نحو ثان، البروفسور الفرنسي Louis Assier-Andrieu منذ أعوام قليلة:
“Les gens de la profession de justice sont à la croisée des chemins, tiraillés entre l’héritage toujours vivace de la défense des libertés publiques et l’emprise croissante des logiques économiques et des progrès technologiques “.

وإنطلاقا من الدور الطليعي للمحامين والقضاة على حد سواء، كرواد فكر وأسياد مهنة ووظيفة تنهلان من تراثهما للحاق بركب الحداثة، ومواجهة لكل من الذكاء الإصطناعي l’intelligence artificielle وظاهرة الإنسان الآلي la robotisation وتشريع الحقوق الرقمية le droit du numérique، لا بد – والزمن زمن استراتيجيات – من وضع استراتيجية مهنية وقضائية تطويرية تحديثية عصرية كفيلة بمواجهة التحديات المتربصة بنقابتينا وبالقضاء، فيما يجدر التنويه بالمكننة لكامل أعمال محكمة التمييز التي أطلقتها المحكمة العليا منذ سنة تقريبا”.

وقال: “دولة رئيس المجلس النيابي الزميل الألمعي الأستاذ نبيه بري، دولة رئيس مجلس الوزراء رجل البناء الأستاذ سعد الدين الحريري، كلمة أخيرة من نقابتي المحامين بتكرار لبياني مجلسيهما منذ أيام، الداعيين ليس فقط إلى إستقلالية القضاء لا بل إلى وجوب تحصينه كسلطة دستورية، والشاجبين الإعتكاف المتمادي للقضاة كوسيلة تجاور الإستنكاف عن إحقاق الحق وتجافي مقتضيات العدالة وتسيير المرفق العام العدلي فيتآكل الصدأ ميزان العدالة لينال من مصالح المتقاضين ومن ممارسة المحامين لمهنتهم. فبإزاء المواقف المتتالية والمتكررة الصادرة عن فخامة رئيس البلاد منذ أكثر من سنتين ونصف الحاضة السادة القضاة على التقدم منه شخصيا بالشكاية من اي تظلم أو تدخل سياسي يرمي إلى النيل من إستقلاليتهم ومناعتهم الذاتية، بيد أن النقابتين لم تقصرا يوما في تأييد تحركات ومطالب القضاة المحقة وتعكفان حاليا على درس مشروع “إقتراح قانون إستقلال القضاء العدلي وشفافيته””.

اضاف: “وبمناسبة تمحيص مشروع موازنة الدولة، وهو الصك الركني للمالية العامة، لا مناص من الإهتداء، في المقابل، بنبراس القرارات 1/1999 و5/2000 و2/2001، الصادرة عن المجلس الدستوري، التي ركزت على المصاف المرتقية إليه الحقوق الأساسيةfondamentaux les droits، والحقوق الإجتماعية les droits sociaux من عدادها، بحيث أضحت هذه الحقوق ملزمة للمشترع وأصبحت درجة حمايتها معيارا لدستورية التشريع، فلا يسوغ للسلطة الإشتراعية الإضعاف من الضمانات التي أقرها المجلس النيابي للقضاة بموجب تشريعات سابقة لجهة حق مكتسب أو حرية أساسية سواء عن طريق إلغاء هذه الضمانات أو بإحلال ضمانات أخرى مكانها أقل قوة وفاعلية”.

وختم: “حضرة الرئيس الأول لمحكمة التمييز القاضي جان فهد، العقبى لمئويات عديدة أخرى، والسلام”.

سرحان
وتلاه سرحان الذي قال: “إن رعايتكم، فخامة الرئيس، وحضوركم شخصيا مع أركان الدولة، هو دليل على إيمانكم بدولة القانون التي لا تستقيم إلا بوجود قضاء مستقل ونزيه، أو عبثا نتكلم عن قيام الدولة إذا لم يكن قضاؤها سيد نفسه، مستقل الإرادة والقرار، منزها عن كل الأهواء، متمتعا بكفاءة عالية متسلحا بالقانون والضمير.
اليوم تطوي محكمة التمييز القرن الأول من عمرها، وتدخل في الزمن الآتي أكثر نضارة وأشد رسوخا في الحق. فهي أنشئت سنة 1919 قبل عام واحد من إعلان دولة لبنان الكبير، فكأنما أريد لها، بهذا التتابع الزمني، أن تكون إحدى الركائز الأساسية في بناء الدولة الناشئة، تحرس قوانينها وتحفظ حقوق أفرادها ومؤسساتها عبر تثبيت العدالة وممارسة الرقابة على قرارات محاكم الإستئناف.
مئة عام لم توهن هذه المحكمة، بل أكسبتها قوة ومناعة، فنما اجتهادها في مختلف المجالات الحقوقية، وتطور حتى أصبح تراثا غنيا، هو، إلى جانب الفقه، مصدر مكمل للتشريع.
وإذا كانت محكمة التمييز، بعد استحداثها في العام 1919، قد ألغيت مرتين في العامين 1930 و1939، إلا أن المشترع اللبناني أعادها نهائيا في العام 1950، تلبية لحاجة ماسة إلى وجود محكمة عليا، تحظى بسلطة معنوية بالنسبة إلى المحاكم التي تمارس رقابتها عليها، وتكون ضامنة لوحدة الإجتهاد وعدم تضارب القرارات القضائية التي تسهر على مطابقتها للقانون.
من هنا ضرورة وجود هذه المحكمة واستمرارها، ودعمها، عبر اختيار القضاة اللامعين لتشكيل غرفها، باعتبار أن تبوء مركز فيها يفترض أن يكون تتويجا لمسيرة قضائية ناجحة.
ففي البلدان الراقية، ولا سيما في فرنسا، كم رأينا من أساتذة حقوق لامعين يعينون، بسبب شهرتهم العلمية، قضاة في محكمة التمييز، فتستفيد من قدراتهم الفقهية، في حين يتسع أفقهم العلمي، كأساتذة، بنتيجة الخبرة العلمية التي يكتسبونها من جراء ممارسة مهامهم القضائية”.

أضاف: “في لبنان، مما زاد محكمة التمييز تألقا طيلة هذا القرن، أن قضاة أكفاء، اكتسبوا بعلمهم ومناقبيتهم واستقلالهم، شهرة تجاوزت أحيانا حدود الوطن، ترأسوا هذه المؤسسة أو كانوا رؤساء غرف أو مستشارين فيها.
وإذا كان المجال يضيق في هذه الكلمة عن تسمية هؤلاء، أو بعضهم، فإن في مطاوي ذاكرتنا أطياف قضاة أبرار كانوا يحملون بإخلاص أمانة الحكم بالعدل، دون أن يتأثروا بأي ضغط سياسي أو إغراء من أي نوع كان. وحسبي أن أذكر بين هؤلاء الرئيس خليل جريج، لا بسبب انتمائي وإياه إلى منطقة الكورة فحسب، بل لأنه في مستهل مسيرتي القضائية شكل بالنسبة إلي مثالا لرجل العلم والقاضي المجتهد.
إننا نتذكر تاريخ محكمة التمييز ودورها البارز، في الوقت الذي يواجه القضاء اللبناني تحديات حقيقية لا يجوز التغاضي عنها، ذلك أن الجسم القضائي ليس حاليا في أفضل حالاته بسبب شوائب تعتري مسيرته، تجري حاليا المحاسبة بشأنها، ما يؤدي إلى زعزعة ثقة الناس نتيجة ذلك بقضاء يضمن لهم الحصول على حقوقهم المشروعة؛ هذه الأمور كلها تحتاج إلى معالجة حقيقية في العمق، لن نتأخر، بإشراف فخامة الرئيس وصاحبي الدولة، عن القيام بها، توصلا إلى إقامة سلطة قضائية مستقلة، تكون حجر الزاوية في دولة القانون، التي نطمح إليها.
فما دامت الإرادة السياسية، على أعلى مستوى، متوفرة من أجل إحلال سلطة قضائية محل قضاء السلطة، يتوجب علينا، كل من موقعه، أن نترجمها إلى نصوص قانونية وإجراءات عملية تضمن استقلال القضاء وتعزز ثقة المواطنين به.
وفي هذا المجال، لمحكمة التمييز وقضاتها، مهمة رائدة ينبغي لهم الإضطلاع بها، لأنهم، بحكم خبراتهم ومواقعهم، حكماء القضاء، يعطون، بأدائهم ورصانتهم، المثل الصالح، لسواهم من القضاة، في مسيرة الإصلاح القضائي المنشود، الذي هو أساس أي إصلاح في سائر مرافق الدولة”.

وختم: “أتحدث بهذا، لا بصفتي وزيرا للعدل فحسب، بل من موقعي كقاض سابق، يعرف مقدار المسؤولية الملقاة على القضاة ويراهن على إدراك السلطة القضائية، للآمال المعقودة عليها في هذا الخصوص.
وعلى أمل أن يتم الإصلاح قريبا، وأن ينعم اللبنانيون بقضاء معافى، نهنىء قضاة لبنان بصورة عامة، وقضاة محكمة التمييز رئيسا أول ورؤساء غرف ومستشارين بصورة خاصة، بمئوية محكمة التمييز، متمنين لهم الخير كله، والسلام”.

فهد
وألقى فهد كلمة قال توجه فيها الى رئيس الجمهورية: “للمرة الثانية هذه السنة، والثالثة منذ بداية عهدكم، نتشرف باستقبالكم في قصر العدل، محاطا بدولة رئيس مجلس النواب المحامي الاستاذ نبيه بري، ودولة رئيس مجلس الوزراء الاستاذ سعد الحريري، فتؤكدون بذلك، مرة جديدة حرصكم على مشاركة السلطة القضائية المحطات الأساسية في مسيرتها لاحقاق الحق وتعميم العدالة. وكما أكدتم في كل مناسبة حرصكم على استقلالية السلطة القضائية، تجددون اليوم بوجودكم معنا في المئوية الأولى لمحكمة التمييز ثقتكم بهذه السلطة التي تنظر إليكم مدافعا عن حقوقها، محافظا على تجردها، وحريصا على وحدتها، ساعيا دائما الى تشجيع التفاهم والحوار والاصغاء بين أفراد اسرتها. فأهلا بكم فخامة الرئيس وصاحبي الدولة والحضور الكرام”.

اضاف: “كانت الدنيا على غليان، وعلى مشارف التحول السياسي والكياني والإداري، يوم شهدت بيروت إنشاء محكمة عليا، في السابع عشر من شهر حزيران عام 1919. كان منشئها أحد المسؤولين العسكريين الكبار في الجيش الفرنسي النازل في ديارنا، الكولونيل ليونيل كوبان Leonel Copin الذي شاء أن يخفف الأعباء القضائية عن أبناء هذه المنطقة، المنهكين أصلا لغير سبب، فنقل، بريشة رؤيوية حاسمة، مركز المراجعة التمييزية من اسطنبول إلى بيروت، ومن عهد بائد إلى فجر جديد”.

وتابع: “هذا المتطلع إلى المستقبل، المسكون بثقافة قانونية تحدرت إليه من إرث نابوليون التاريخي، لم ينتظر حل المسائل المصيرية الشائكة التي خلفتها الحرب، والتوافق على الهندسات السياسية التي يفرضها المنتصرون، فسارع الى تقديم هاجس العدالة على سواه، خصوصا وأن المؤسسة المنشأة هي محكمة التمييز، رأس الهرم في المنظومة القضائية، وصمام الأمان في سياق حكم القانون، وغربال الاجتهاد ورمز وحدته وفاعليته وتطوره. أجل، سارع إلى إطلاقها قبل إعلان دولة لبنان الكبير. وبذلك قدم العدالة على السياسة، لأنه إذا كانت السياسة تحتمل المداولة والحوار والأخذ والعطاء بلا حدود، فالعدالة حاجة في المجتمعات المتحولة والمستقرة، في السكون وفي الغليان، في الحرب وفي السلم”.

وقال القاضي فهد: “نشأت محكمة التمييز آنذاك، وتطورت، وتعرضت في بعض المراحل للالغاء، ثم استقرت على ما هي عليه اليوم، بتنظيماتها، واختصاصاتها، ودورها المسهم، لا في مراقبة مدى تقيد محاكم الأساس بالقانون فحسب، بل كذلك في إدارة التنوع في النسيج اللبناني، حيث تتمتع الجماعات الدينية بامتيازات تشريعية في ميدان الأحوال الشخصية، تليها امتيازات قضائية تسفر عن إصدار قرارات قد لا تراعي الأصول الجوهرية أو مقتضى النظام العام، فتعمد الهيئة العامة لمحكمة التمييز إلى إبطالها”.

وأكد “ان محكمتنا العليا، على ما واكب نشوءها وترسيخ بنيانها الأول من أيد فرنسية مشكورة، وعلى ما بينها وبين محكمة التمييز الفرنسية من قرابة أو تشابه في بعض الوجوه نظرا لانتماء المحكمتين الى أسرة القانون المكتوب… إن هذه المحكمة ولدت ونمت ونضجت في الشرق العربي، ولفحتها رياح موروثه الثقافي، لغة وجوهرا. كما سورها وجدان الشعب اللبناني فجاءت على صورته، متعددة المنابع، موحدة التطلعات، حريصة على أن تستظل وإياه حكم القانون، مرجعا وسقفا جامعا”.

وقال: “إن تقدم تاريخ إنشاء محكمة التمييز على حدث بالغ الأهمية هو إنشاء دولة لبنان الكبير، أو نشوءهما المتقارب في الزمن، يثبت أن لا نهضة للمجتمع، ولا حياة له، ولا روح مصالحة، ولا شيوع عدالة، ولا صون لأي حق، من الأعلى إلى الأدنى… إلا بوجود قضاء على مستوى الأمنيات، والحاجات، والصعاب، والانتظارات”.

ورأى فهد “ان محكمتنا، وقضاءنا، وكل ما يمت إلى دولة الحق وحكم القانون بصلة، هي أمام مجموعة من التحديات”. وقال: “من هذه التحديات، أن نجدد الدور المنوط بالمحكمة العليا بشأن استقرار الاجتهاد. ولتحقيق هذا الهدف لا بد من حوار في العمق مع محاكم الأساس، ومن تعميم ثقافة المداولة في البيت القضائي الداخلي. محكمة التمييز هي الأرفع، ولكن هذه الرفعة تزداد إذا شرعت الصدر لاستيعاب الدور المعطى لسواها في المنظومة القضائية”.

اضاف: “من التحديات كيفية توفيقها، بمهارة وواقعية وتوازن، بين سيادة القاعدة القانونية الداخلية وسمو المعاهدات الدولية. ومنها المرونة في كيفية مواكبة ثورة التواصل الاجتماعي التي تفسح في المجال لنقد مستفيض يتناول الأحكام القضائية، نتقبله بكل ترحاب شريطة أن يراعي جانب الحقيقة وجانب حسن النية. ومنها الموازاة بين حق المتقاضي في المراجعة التمييزية وواجب مراعاة مبدأ التقاضي على درجتين، وبين تجنب إغراق محكمة التمييز بمراجعات لا طائل يرجى من ورائها. ومنها التنسيق مع نقابتي المحامين الموقرتين لتشجيع الأساتذة المحامين على الاتجاه الى التخصص في مجال التمييز، على أن يتم، بموازاة ذلك، تدريب القضاة الحديثي العهد في التمييز على التقنيات الخاصة بهذه المحكمة. ومنها العمل على تطوير سلك المساعدين القضائيين عددا وتدريبا، وتجهيز الأقلام لتواكب مقتضيات السرعة والأمانة والحداثة. ومنها رسم سياسة عامة تتعلق بمسار المراجعة التمييزية وتحديد مهلة زمنية قصوى لفصلها. ومنها الوصول الى اللحظة الكبرى… اللحظة التي يحظى القضاء فيها، كل القضاء، بثقة المجتمع. وطالما أن الثقة مصابة، فهذا يعني أننا لم نصل بعد الى عدالة مثلى”.

واشار الى انه “منذ العهد التمهيدي الذي سبق إعلان دولة لبنان الكبير، إلى عهدكم يا فخامة الرئيس… لا يزال هاجس العدالة في الصدارة. يدرك الجميع أن ثمة في تصوركم الدولة القادرة والعادلة الكثير مما يتعلق بصون القضاء، بدوره، بتطويره، باستقلاله، وبأمان القضاة الاجتماعي وتطلعاتهم المشروعة التي تمكنهم من ممارسة المهام الجلى الملقاة على عواتقهم. ويدرك الجميع أنكم لا ترون دولة قوية، حرة، عادلة، إلا إذا كان قضاؤها آمنا ومؤتمنا على وديعة العدالة، بجذورها السامية وبمفاهيمها الاجتماعية. هذا ما يؤثر عنكم، وما يرى، ونحن شهود عليه”.

وأعلن “ان للقضاء في لبنان، على صعيد النزوع الى التحديث، وعلى صعيد الإنتاج وكل ما يمت بصلة الى الواجب المقدس، إسهامات شتى لا محل للتبسط فيها، في هذا المقام الجلل. وإنه، في موازاة ذلك، على بينة من مواطن القصور التي تعتري مسيرته. وقد تم وضع خطة تمكنه من أداء رسالته الرامية الى توطيد الأمان الاجتماعي وحماية الحريات. خطة من شعابها العمل على تنقية ذاتية بدأت، ولن تتوقف، إلى أن تبلغ غايتها القصوى”.

وقال: “وبالمناسبة، نذكر أن شبكة مجالس القضاء العليا الفرنكوفونية الموجودة معنا اليوم اختارت عنوانا لمؤتمرها الذي سيعقد يوم الجمعة المقبل “علاقة السلطة القضائية مع السلطة التنفيذية”. عنوان يبشر بأن استقلال القضاء الذي تحملون لواءه، بات محورا عالميا، وهدفا منشودا”.

وختم: “مئة عام من العدالة في لبنان؟ إننا تواقون، في هذه المناسبة، إلى عدالة تحضن مجتمعنا ودولتنا، وتكون دائمة التجدد”.

رئيس الجمهورية
ثم كانت كلمة الختام لرئيس الجمهورية، فرأى انه “لافت أن تكون مقومات ومرتكزات الدولة في لبنان قد وضعت قبل أن يتم إعلان الدولة بحد ذاتها، ومحكمة التمييز اللبنانية واحدة منها، وهي التي سبقت نشأتها إعلان “لبنان الكبير” بعام ونيف، وفي ذلك رسالة صريحة أن إقامة العدالة هي أساس الحكم وأساس الدولة، وهذا ليس غريبا عن بيروت أم الشرائع التي أنشئت فيها أول مدرسة حقوق في العالم في عهد الامبراطورية الرومانية”.

وقال: “تعود تسمية “محكمة التمييز” إلى 20 نيسان من العام 1920 حيث كانت مرتبطة بالمندوبية الفرنسية، إلا أن بدايتها ترافقت ووصول الفرنسيين إلى لبنان في العام 1918 بعد حصار جبل لبنان من مأموري السلطنة العثمانية المتهاوية، والمجاعة التي قضت على عدد كبير من سكانه، حيث قيض للفرنسيين الإمساك بزمام الأمور وإعلان الإدارة المؤقتة وإلغاء القوانين والقرارات العثمانية، وصولا إلى تاريخ 17 حزيران 1919 حين صدر عن المفوض السامي الفرنسي القرار 452 المسمى “قانون المحكمة العليا” وتحدد مركزها في بيروت وشمل اختصاصها القضايا المدنية والجزائية”.

وتابع: “ما يهمنا اليوم ليس العودة إلى مراحل ما قبل أو بعد 1919 وليس استعراض ما تم على مدى مائة عام في عالم القضاء والمحاكم، بل خلاصة هذا المخاض الطويل، هي أن ثمة أسسا في العدالة، عدالة الأرض، يجب أن تتوافر في كل محكمة وكل محاكمة، نوجزها كالآتي:
– على كل متظلم أن يجد قاضيه وأن يكون لشكواه ومظلوميته مرجع أخير يوصله إلى العدالة.
– على كل متظلم متقاض أن يلقى محاكمة عادلة.
– على كل متظلم متقاض أن يتمتع بضمانات، هي أصلا في صلب دستورنا، وفي المادة 20 منه تحديدا التي لم ينل منها أي تعديل منذ وضع الدستور، ضمانات متوازية مع ضمانات القضاة وذات مرتبة واحدة، ومنها قرينة البراءة وحق الدفاع والوجاهية واستئناف الأحكام وطلب نقضها عند توافر شروط النقض وعدم إرهاق المتقاضين بتكاليف باهظة ينفرون منها عن عجز وليس عن اقتناع.
– على كل متظلم متقاض أن ينال محاكمة سريعة وليس متسرعة، ذلك أن كل عدالة متأخرة هي نقيض العدالة لا بل هي من قبيل الامتناع عن إحقاق الحق.
– تعرفون الحق والحق يحرركم، من التوراة إلى إنجيل يوحنا، ومن القرآن الكريم إلى السيرة الشريفة والنهج، الحق والحقيقة توأمان لا ينفصلان”.

أضاف: “ويبقى أن القاضي يجب أيضا ان يتحصن بضمانات، مادية ومعنوية، إلا أن أهمها تبقى الاستقلالية، استقلالية السلطة الدستورية واستقلالية القاضي الفرد عند اختلائه وضميره وقلمه وعلمه منصرفا إلى الحكم. إن هذه الاستقلالية، على ما قلت لكم عند افتتاح السنة القضائية في بداية عهدي، ليست منة من حاكم بل هي حق لكم إن أردنا عدالة منزهة عن الاستتباع السياسي أو الارتهان المصلحي أو الاعتبار الطوائفي أو المذهبي أو المناطقي، والحق يستحق بالممارسة وليس بالاستعطاف والوقوف على أبواب أهل السياسة والسلطة، كما الموقع الذي يشغله صاحب الاختصاص والكفاءة والجدارة والنزاهة الفكرية والمادية والاستحقاق، وهي معايير ذكرها دستورنا في أكثر من فصل من فصوله”.

واكد “إن السلطة الدستورية المستقلة مسؤولية قبل أن تكون عطية، فاستحقوها ومارسوها بالعمل الدؤوب، فتفرضون ذواتكم على من يتنكر لكم ولسلطتكم”.

وقال: “كلمتي لكم في مناسبة يوبيل محكمتكم المئوي يا قضاة التمييز، وقد أولاكم القانون توحيد الاجتهاد، إن اجتهدوا كي تحققوا العدالة وتعطوا المثل الصالح لأترابكم من القضاة الذين سيصبحون يوما في مواقعكم ودرجاتكم، حتى إن اجتمعتم في هيئة عامة للتصدي لخطأ جسيم في الأحكام، شخصت الأنظار إليكم وإلى قراراتكم تستلهم منها العدل الصافي. فالعدل في النهاية طمأنينة للنفوس والأوطان، كثرته تقي من الانزلاق إلى الفوضى والظلم والعنف. وعلى ما يقول فيلسوف لبنان الكبير جبران خليل جبران: “إن لم يجر بينكم التبادل بالحب والعدل، شرهت فيكم نفوس وجاعت أخرى”
عشتم، عاش قضاء لبنان وعاش لبنان”.