خاص Lebanon On Time _ خالد أبو شام
في الشمال اللبناني، من طرابلس إلى الضنية، مرورًا بعكار والمنية وزغرتا والبترون، يعيش آلاف العمال تحت رحمة واقع اقتصادي بالغ القسوة، عنوانه الأساسي: أجور متدنية لا تكفي لسدّ الرمق، واستغلال ممنهج يقابل بصمتٍ رسمي مريب. إنها مأساة صامتة يتقاسمها أبناء القرى والبلدات كما أبناء المدن، ويجمعها خيط واحد: الإهمال التاريخي من قبل الدولة.
في ظلّ الانهيار الاقتصادي المتواصل منذ عام 2019، تحوّلت أجور العمال في الشمال إلى مجرد فتات، لا يلبّي حاجات الغذاء أو السكن أو الطبابة أو النقل. فبينما تُسعَّر السلع والخدمات بالدولار، لا تزال غالبية الأجور تُدفع بالليرة اللبنانية، وبأرقام لا تتجاوز بضع مئات الآلاف في كثير من الحالات، ما يجعل قيمة العمل اليومي أقرب إلى عمل تطوّعي قسري، مفروض على العامل بحكم الحاجة لا بحكم العدالة.
وإذا كان الوضع في طرابلس يسلّط الضوء على الفقر المزمن، فإن القرى والبلدات المحيطة ليست بحال أفضل، بل إن بعضها يعاني من فقر مركّب، يجمع بين العزلة الجغرافية وغياب البنى التحتية وفرص العمل، ما يدفع شبابها إمّا إلى الهجرة الداخلية أو الخارجية، أو إلى القبول بأعمال شاقة لقاء أجور زهيدة دون ضمانات.
في المصانع، في ورش البناء، في الزراعة، في القطاعات الخدمية، تتكرر نفس الحكاية: دوام طويل، عمل مرهق، وأجر لا يرقى حتى إلى مستوى الحد الأدنى للعيش الكريم. والمؤسف أن هذا الاستغلال بات يُمارس وكأنه القاعدة، في غياب شبه تام للرقابة من قبل وزارة العمل أو أي جهة رسمية معنية.
أما المسؤولية الكبرى، فهي بلا شك تقع على عاتق الدولة، التي تخلّت عن دورها في حماية مواطنيها، وسمحت بتحوّل شمال لبنان إلى مساحة للحرمان والإهمال. لا قوانين مطبقة، لا أجهزة رقابية فعّالة، لا دعم حقيقي للطبقة العاملة، بل تركٌ ممنهج للفقراء كي يتدبّروا أمورهم بأنفسهم وسط غابة من الأزمات.
ولعلّ الأخطر من ذلك، هو أن بعض أرباب العمل باتوا يستغلّون الأزمة لتبرير دفع أجور غير منصفة، مستفيدين من ضعف البدائل لدى العمال ومن انعدام الحماية النقابية. فالنقابات في الشمال مغيّبة، أو مخترقة، أو عاجزة عن الفعل، ما يجعل العامل عرضة للاستغلال المزدوج: من السوق ومن الدولة.
العدالة الاجتماعية تبدأ من ضمان أجر عادل لكل من يعمل. والمطلوب ليس فقط تصحيح الأجور بما يتناسب مع كلفة المعيشة، بل وضع خطة وطنية شاملة لدعم المناطق المحرومة في الشمال، وتنشيط الاقتصاد المحلي، وتوفير الحوافز للمؤسسات الملتزمة بحقوق العمال.
لقد أثبتت التجربة أن إهمال الأطراف يولّد الغضب، وأن التفاوت في العدالة يولّد التفكك. وإذا أرادت الدولة اللبنانية تجنّب المزيد من الانفجارات الاجتماعية، فعليها أن تبدأ من حيث الألم الأكبر: من العمال في الشمال، الذين طال انتظارهم لكرامة العمل، وعدالة الأجر، ورقابة الدولة.