جريدة الكترونية تأسست
1/1/2015
الرئيسية / جريدة اليوم / أنا مواطن لبناني سابق
أحمد الغز

أنا مواطن لبناني سابق

أحمد الغز :

انا مواطن لبناني سابق في لحظة الحقيقة المرّة والمواجهة مع الذات. انها لحظة الفشل التام للدولة والمجتمع والفرد في لبنان. انها لحظةٌ فوق الكذب والادعاء وفوق الشطارة والمهارات. انها لحظة الاعتراف أنّنا قوم سفهاء مجرمون قتلة أهل حقد وكراهية وانتقام، وأيدينا ملطّخة بدمائنا، وأننا نهبنا المتاجر والمصانع والبنوك والمال العام وبيوت المصطافين والضيوف الزائرين، وقطعنا الطرقات والأعناق وسكّة الحديد وخطوط الهاتف والكهرباء، وسرقنا المرافىء والمطار، وخلعنا أبواب البيوت، ونمنا على أسرة الأهل والجيران، واغتصبنا وسحلنا الصغار والكبار.
انا مواطن لبناني سابق اعترف انها حقيقتنا، ولأجلها احترفنا النسيان والكذب والادعاء أننا أهل حكمة وكتاب وأهل صلح ووئام، وأن ما صدر منّا كان حرب الآخرين بِنَا على ارضنا. نعم، كَذَبنا على أنفسنا وتجرّأنا على تصديق أنفسنا أنّنا أبرياء، ولبسنا ثوب التمدّن والطهارة، ولعبنا دور الضحية بإتقان، ورفعنا مظالمنا للعالم والجوار، واستجدينا العطف من الكبار والصغار الذين دفعوا عنّا ثمن إعمار ما هدمنا وثمن تحرير ما أضعناه وثمن إقامة دولتنا، لأنّنا نتقن الاستعطاء.
انا لبناني سابق اشعر بالمهانة والذلّ والغباء مع صدور صحف الصباح وما تحمله من ارتكابات، وكذلك كل مساء مع نشرات الأخبار المصوّرة لنجوم السفاهة والسفهاء والضياع حتى في ابسط المهمّات. والمضحك المبكي هو تلك العظمة والهيبة وهم يصنعون المأساة مع الاعتداد بالذات وبالتاريخ المشرّف في تفكيك الدولة والمجتمع وقهر الأفراد.
انا لبناني سابق اشعر بالمهانة، واعترف بكل ذنوبي وجنوني بحبّ لبنان، وأنّي خدعت نفسي وأحبابي ومحبّي خمسون عاماً. وأعترف أنّي جبان لم اتجرّأ على حمل السلاح او قتل إنسان، ولم اتجرّأ على النوم في أسرة المهجّرين والمبعدين عن بيوتهم، مسيحيّين ومسلمين ويساريّين ويمينيّين. واعترف أنّي اعرف كل الذين قَتَلوا وهَجّروا ونهبوا وحكموا الناس بالعنف باسم العقيدة او الدين.
انا مواطن لبناني سابق اريد أن اصرخ بصوت عال: وا لبناناه! أضعناك وأضعنا حلمنا الجميل في رُباك.. ومنذ عقود لم ننشدك او نغنّيك، وبخلنا عليك حتى بالرثاء.. اعترف أنّي فتنت بك وطناً، وعشقت وحيدتك بيروت، وحملت اليها كل ازهاري واحلامي، وسكنت فنادقها، وأدمنت مقاهيها، وبكيت تحت اقدامها يوم أصابوها، ووهبتها صلاتي ودعائي كي تبقى على قيد الحياة، وعدت اليها يوم أعادوها.
انا لبناني سابق أُشهِر حزني على وطني وأغادر كل مشاعري، فأنا لست غاضباً ولا معارضاً. أنا أخاطب نفسي بنفسي فليس عندي من أخاطب. مات في لبنان أدب التخاطب، والكلّ في وطني قاتل. المطربون اصبحوا قيصر او عنتر او فارس او صاروخ او راجمة قنابل. وا أسفي! لم يعد فينا شاعر يجمعنا، ولا شاعر مقيم او شاعر عابر. تصحّرت مشاعرنا، وهجر الحب قرانا ومدننا وروابينا، وجفت مآقينا والمحاجر.
انا لبناني سابق عاشق للتنوع وصديق كل عاقل، شديد الحميمية مع جذوري وحقولي والمراعي والجداول، وشديد التهيب والحرص على مدنيّتي وعروبتي وانسانيّتي. وكان وطني لبنان يتّسع لجذوري وفروعي. مات لبنان واأسفي، وأصبحت يتيم الفروع والأصول.. انا مواطن لبناني سابق اشعر بحنين شديد الى وطني..
ahmadghoz@hotmail.com