جريدة الكترونية تأسست
1/1/2015
الرئيسية / أنشطة إجتماعية و مناسبات / “مويسقيون ورسّامون يحاورون” في إهدن، في رواية أنطوان الدويهي الجديدة “آخر الأراضي”
IMG-20170731-WA0016

“مويسقيون ورسّامون يحاورون” في إهدن، في رواية أنطوان الدويهي الجديدة “آخر الأراضي”

بدعوة من اللجنة الثقافية في بلدية زغرتا- إهدن وبالاشتراك مع الناشرَين الدار العربية للعلوم، ودار المراد اقيمت ندوة” موسيقيون ورسّامون يحاورون في رواية “آخر الأراضي” لأنطوان الدويهي”في قبو قصر الكبرى الأثري في اهدن.
شارك فيها كل من رئيس قسم التربية الموسيقية في الجامعة اللبنانية الدكتور في العلوم الموسيقية جان بالشيون ومديرة معهد الموسيقى في الجامعة الأنطونية في الشمال ماري دحدح والفنان التشكيلي اللبناني المعروف بولس خوّام.

وقد حضر اللقاء حشد كبير من أهل الأدب والفن والثقافة في إهدن والشمال ورئيس المجلس البلدي لزغرتا- إهدن، الدكتور سيزار باسيم، ورئيس اللجنة الثقافية الدكتور جورج دحدح، والعديد من الفعاليات.

سيزار باسيم

بعد النشيد الوطني تكلّم الدكتور باسيم وقراْ على الجمهور ما كتبه الدويهي على صفحة النسخة المهداة إليه، إذ ذكر قول دوستويفسكي “وحده الجمال سينقذ العالم”، موضحاً “أي عندما يتوصل قادة المجتمعات، ويتوصل الناس إلى مرتبة إدراك الشعور الجمالي، يصلون إلى الرقي الحقيقي، فينقذون أنفسهم ومجتمعاتهم والطبيعة والعالم”.

جورج دحدح

ثم تحدّث الدكتور جورج دحدح لافتاً النظر إلى نشاطات البلدية الثقافية المتوالية، لا سيما تكريسها سنة 2017 ” سنة الفنان العالمي صليبا الدويهي”، وما يتخللها من ندوات ومعارض ومناسبات متصلة بأعماله.

سيمون القندلفت

ثم قدّم المسرحي سيمون القندلفت للندوة سائلاً ما الذي يستطيع إضافته، للتعريف بأنطوان الدويهي، إلى شهادات القدر الكبير من الأدباء والمفكرين والنقاد في أدبه مستعيداً قول أنسي الحاج : “يُقرأ أنطوان الدويهي كما تُفرَد حبّات اللؤلؤ” . ثمّ عرّف القندلفت بالمشاركين الثلاثة الذين توالوا على الكلام،
جان بالشيون

وتحت عنوان “وحدة العالمين وجدلية الفنّ والموت في رواية “آخر الأراضي”،قال جان بالشيون:
“وجدتني، وأنا أقرأ رواية “آخر الأراضي”، أدخل عالماً، جد خاص، ألفته عند الدويهي. أنه عالم الغوص في أعماق النفس البشرية، عبردخائل الذات. وإذا كان من تسمية تطلَََق على هذه الأعمال، فهي، أكثر من أي شيء، “أدب الأعماق”. ومع أني لم أقرأ بعد أعماله الكاملة، بل رواياته الثلاث الأخيرة، فسوف أشير في هذا اللقاء، على نحوٍ موجز، الى بعض ما لمسته في عالم الدويهي الأدبي، لا سيما الى نقطتين أساسيتين، وهما غيضٌ من فيض، من عالمٍ بالغ الثراء والتشعّب، تصعبُ تماماً الإحاطة بكل أبعادِه”.

وأضاف”النقطة الأولى أتطرّقُ إليها ربما، بسبب إحساسي الخاص بوجودي الشخصي، الجغرافي والتاريخي والنفسي، بين المشرق العربي وبلاد السلاف الأوروبية. لذا ربما تفاعلتُ بقوة مع أدبِ الدويهي، في جمعِه، في بوتقةٍ واحدة، تجربةَ العالمين، في مدى أدبي كبير، يمتدّ من مُطلات جبل لبنان شرقاً، على حدّ تعبيرِه، إلى تخوم بلاد النورمان والبروتون والفلامان،على شواطىء المحيط الأطلسي غرباً. والجديرُ ذكرُه أن ما يجمعُ بين العالمين، في هذه المساحة الأدبيةالشاسعة، هو أقوى بكثير مما يُفرِّق، وهي خصوصية جد هامّة في أدب الدويهي، سنتوقف عند بعضِ دلالاتها.

بينما تغرقُ مجملُ الأعمالِ الأدبية، المستندة إلى تجربة العالمين، في متاهاتِ صراع الحضارات والثقافات، وما تتّسم به من حدّة، ومرارة، وتفضيل، وانحياز، لا نجد اثراً لأيًّ من ذلك في أدبالدويهي، الذي يعلو فوقها كلها، وهي ميزة فريدة لديه. هذا لا يعني ان الروائي لا يعي الاختلاف. هو يعيه تماماً. فكيف لمن يكتب في “غريقة بحيرة موريه”، بتلك المعرفة والإحساس والدقة، عن الأزمة الوجودية الأوروبية، عبر ما يسمّيه “المرض الباريسي”، كيف له أن لا يكون مدركاً الاختلاف؟ وكيف لا يدرِكُه وهو يتساءل في رواية “آخر الأراضي”: ” أليس اختفاء كلارا أمراً محتوماً، لا سبيل لردّه؟”، لافتاً إلى صعوبة التلاقي بين فسحة ذاته، “المزدحمة بأجساد مئات القتلى، المثقوبي الصدور، الحانية عليهم أمهاتهم في ليالي الفراق الرهيب، السائرة في جنازاتهم كل تلك الحشود”، وفسحة ذات كلارا، التي لا تعرف من صور الموت إلا غياب خالها الشاب، المتعلّقة كثيراً به، المتوفي قبل ولادتها بسنين طويلة على ضفة نهر الشيرز المتجمّد؟

يُدرك الراوي الاختلاف، لكنه يتخطاه إلى ما هو أعلى وأسمى. فكل هذه والأمكنة، والأشخاص، والأحداث، التي لا تحصى، شرقاً وغرباً، الواردة في رواياته، إنما تبدو، على اختلافها، موحّدة في تعبيرها عن المأساة البشرية، وعن المصير البشري الواحد، وعن الطبيعة البشرية الواحدة. وما يجمع بينها في مواجهة المأساة هو أهم وأعمق بكثير ممّا يفرِّق. فالدويهي يشبُكُ العوالم المتعددة في بِناءٍ واحد: الشرق والغرب، شخصيات المجتمع التقليدي مع شخصيات المجتمع الصناعي، الأمكنة المحلية مع الأمكنة الأوروبية …يشبكها ويأنسنها ويُدخِلُ بعضَها ببعض. والدويهي يعي تماماً ذلك. فهو يتحدّث في نصّ له بالفرنسية، منشور قبل سنوات في “لوريان ليتيرير”، عن جغرافيته الأدبية، الممتدة من جبل سيدة الحصن شرقاً، إلى مرتفع مون سان ميشال البعيد غرباً، كأنّه هو ايضاً “آخر الأراضي”. والبحر المتوسط، في أدبه، لا يفصل بين هذين العالمين بقدر ما يوحِّد بينهما. وما يوحّد بينهما خصوصاً، في نظره، أمران : الجمالية والرأفة. الإحساس الجمالي، والرأفة بالمصير البشري”.

وتابع”أما النقطة الثانية التي سأتناولها، فهي جدلية الفن والموت في هذه الرواية، إذ يحتلان حيّزاً كبيراً بين الهواجس الطاغية على الكتاب. يُفرد الراوي فصلاً كاملاً لعرض رؤيتِه الأدبية، ونظرتِه إلى الإبداع الكتابي، في لقائه طلاب “المعهد الملكي”، تحت عنوان “زائرٌ من الشرق” (الفصل التاسع). وهو يُفرد أيضاً فصلين كاملين لوصفٍ دقيق، حيٍّ، ملموس، لكيفية ظهور ما يسمّيه ” اللحظة المتوهّجة”، أو “اللحظة المُضاءة” – التي يعتبرها جوهر إبداعه الأدبي-، عبر سردِهِ تلك الرحلة إلى هولندا (الفصل الحادي عشر)، وسردِهِ ساعة انتظار في إحدى القنصليات، في بيروت على الأرجح (الفصل الثاني عشر). ومن المدهش حقاً كيف تنسابُ هذه الفصول الثلاثة بشكلٍ طبيعي في السياق الروائي، مندمجة عميقاً فيه، مندرجة في حركة البحث المضني عن كلارا، التي تشدّ القارئ بقوة إلى هذه الرواية حتى الرمق الأخير، فلا يستطيع تركها لحظةً، كما حدث لي.

أما هواجسُ الموت وصورُهُ فكثيرة التواجد هي أيضاً، عبر أحداثٍ عديدة تجتاز الرواية من بدايتها. وهو موتٌ مرفوض، غير مقبول، يُذكِّرُ بما أشار إليه المؤلِّف ،مرّة، في حوار له في جريدة “السفير”، قائلاً : “أنا منحازٌ إلى الإنسان في وجه الآلهة”، من ضمن رأفتِهِ بالمصير البشري. من هنا تطالعُنا في “آخر الأراضي” عبارات مثل “هذه الفضيحة الكونية التي هي الموت”، او “هذه الفضيحة الكونية التي هي هشاشة الجسد البشري”، التي يتوقف الراوي بصورة مؤثِرَة عندها، في حديثه عن موت صديقهِ الشاعر سميح العارف (الفصل السادس عشر). لكن اللافت في هذه الرواية، هو الذهاب بمشاعر الموت إلى حدِّها الأقصى، ممّا هو غير معهود. ويأتي ذلك في سياق طبيعي غريب، يندهِشُ القارئ كيف لم يستغربْه وهو يقرأهُ. كأن يصِلُ الراوي، في البوَحِ، إلى ان يقولَ لكلارا، في ما يُشبهُ الإنخطاف : ” إن إحدى مهام حياتي الكبرى هي كشف سرّ الموت. هذه هي المهمّة الحقيقية، الخفية، التي هي مهمتي”. ثم يضيف أنه يشعُرُ ب” أن كشفَ السر ليس بالأمرِ المستحيل. وبأن بابَهُ مخفيٌّ في مكانٍ ما في داخلي، أو في مشاهداتي، لا أدري. أحسُّ بوجودِهِ المؤَكَّد، وبأن مسافةً ما، غير قصيّة، تفصِلُني عنهُ”.

لكن ثمّة علاقة عميقة بين الموت والفن في هذه الرواية. إنها جدلية الفن والموت لدى أنطوان الدويهي. يقول الراوي في لقاء “المعهد الملكي”: ” أكتبُ لأن دعوةَ الكتابة هي دعوتي (…) أكتبُ أيضاً لأن الكتابة هي ردّي على الموت، هي ردّي الوحيد على الموت”. ثم يذهبُ الراوي أبعد بكثير، حين يذكر بأن التجربة الجمالية هي طريق الإهتداء إلى سرّ الموت، فيقول لكلارا، وعيناه في عينيها المدهوشتين : ” اعتقدُ، عبر التجربة الحيّة، أن ثمّةَ تلاقياً اكيداً ، لا يعتريه شك، بين الإحساس الجمالي وهذا السرّ. وأنّ التجربة الجمالية القصوى هي طريقُ الإهتداء إليه. وأنه في عمق الشعور الجمالي الهائل، الطاغي، المالِئ الذات من أقصاها إلى أقصاها، يمثُلُ البابُ المَصون المُفضي إليه”.

تبقى الإشارة إلى أن الروائي ينحازُ في نهاية المطاف إلى الحياة، إذ يقول :” على الرغم من مأسوية العلاقة مع الزمن، وهذا الشيء الرهيب الذي هو وعي الموت، وهشاشة الجسد البشري التي لا تحتمل، والعجز المضنى عن ضبط الاحتمالات، أرى أن الحياة مُفضلة على العدم”.

ويبقى القول بأن أجمل ما في روايات أنطوان الدويهي هو أنك، عند كل إعادة قراءة لها، تزداد عندك الأسئلة وتشتدُ غموضاً وسحراً. في كل ملمحٍ منها، ثمّة مُعينٌ مُتجدِّد من الأحاسيس والإشارات، لا ينضب. ويقيني أن هذا لا يزيدُ كتاباتَهُ إلا جمالا”.

وقد قدّم الدكتور بالشيون ايضاً مقطوعة على الغيتار، ألّفها خصيصاً من وحي رواية “آخر الأراضي”.

ماري دحدح

ثم تحدّثتْ عازفة البيانو ماري دحدح، تحت عنوان “آخر الأراضي، أو الذهاب إلى الحدّ الأقصى”، قائلةً :مع أنّي أعرف عن كثب أنطوان الدويهي وجوَّه الأدبي، وقد قرأتُ له تِباعاً مجمل أعمالَهُ على مدى السنين العشرين الأخيرة، فلا بدّ لي من الاعتراف بأني، كلما قراتُ كتاباً جديداً له، أجد نفسي صامتة، قلِقة، مُضطرِبة، لا أعرِفُ كيف استطاع أن يلمسَ وجعاً عندي، كنت أتحسّسُهُ، ولا أقدَرُ على محوه من ذاكرتي، لكني لا أدري كيف أصِفُهُ، او أحدِّدُ مدى تأثيرِه عليَّ. فذاكرة أنطوان الدويهي تغوصُ بعيداً وتحفُرُ عميقاً في وجداننا، وفي اوجاعنا. كما قال أحدُهُم : “ذاكرتي تعذبُني “Ma mémoire me torture”.
وأنا لا أبالغَ إن قلتُ بأنّ كتابته تتميّز بالصفاء التام، بحيث تكادُ ترى بالعين المجرّدة، بالصورة المحسوسة، دخائلَ الذات التي يتكلّم عنها، كل تلك المشاعر والهواجس والذكريات والأحلام والحالات…وترى عبرها بالصفاءِ نفسِه، حالتك ودخائلك. لا شك في أن ذلك يعودُ إلى قدرات كتابية فريدة. لكن ليس ذلك فقط. هو يعودُ أيضاً إلى الصدق، الصدق التام، في التعبير عمّا يراه الكاتب في أعماقه. في الحياة الداخلية، التي يذكر بأن أعماله الأدبية كلها مستندة إليها، تلك الحياة الداخلية التي يصفها في أحد حواراته المنشورة، بأنها ” الكونُ برمّتِه”، وبأنّه ” حين تنطفئ الحياة الداخلية، ينطفئ الكون”، وانه هو ككاتب، مجرّدُ ” شاهدٍ لها”. “ما انا إلا شاهد”، يقول. ترى هي الكتابة المطلقة التي يتحدّث عنها؟ تلك التي تحمُلكَ إلى أقصى الحدود، وترميك في “آخر أراضي” الروح، في آخر عذابات الروح؟ كما يقول جان جونيه بأن “الأقصى هو الصفاءُ عينُه” “L’extrême c’est l’état pur”.
وتابعت”تبدأ الرواية بوفاة سلمى فرح المفاجئ في “شقتها الوادعة” في ضاحية مونروج، التي هزّت الراوي في أعماقه، وغيّرت مجرى حياتِه، إذ كانت هي المرّة الأولى التي يعاين فيها مباشرةً الموت. ثمّ تتوالى الأحداث، الدائرة حول اختفاء حبيبته كلارا الغريب، المُحَيِّر، الذي يلهث الراوي – ومعه القارئ – في بحثهما عنها. وتتوالى أثناء ذلك مشاهدات وأمكنة ووجوه، لا حصر لها، آتية من أبعاد زمنية ثلاثة : الماضي، والحاضر، والحلم، الذي يطالعُنا هنا بقوة، كما في كل أعمال الدويهي، المنجذب إلى أشياء اللاوعي. ولهواجسِ الموتِ وصورِه مكانُها في “آخر الأراضي”، من انطفاء سلمى فرح، إلى غرق رئيف زين عند شاطئ سان مالو، إلى مصرع كميل بلونديل، خال كلارا، على ضفّة نهر الشيرز المتجمِّد، إلى نزاع الشاعر سميح العارف، الطويل، المتقطّع، وغيرها العديد أيضاً.
لكن الموتَ في “آخر الأراضي” ليس هو الموت الذي تعرفون. ليس فقط لأن الراوي يرى بأن الموت، رغم فجيعتِهِ، هو “أمرٌ غير منطقي، غير طبيعي، وخصوصاً، وهو الأهمّ، غير حقيقي قطّ”. وليس لأنه يشعرُ بقوّة بأن موت سلمى المفاجئ “غير حقيقي، وبأن حياتَها مستمرّة في هذا العالم ( يقصد العالم الأرضي)، بكاملِ شخصِها هي، لكن على نحو مختلف”. بل أيضاً وخصوصاً، لأن الحدود ممحوّة تماماً، لدى الروائي، بين الحياة والموت. يذكرُ في “كتاب الحالة”، عن “مدينة بعد ظهر الأحد”، أنه “لا الأموات فيها ماتوا حقاً، ولا الأحياء حقاً يحيون”. وفي “آخر الأراضي”، حين تحفّظت أيفا على رغبتِهِ في تعليق صورةِ عمِه سَلمان في بيتهما الصيفيّ ، سائلةً :”هل تحبّ، أنت، تعليق صور الأموات؟”، يقول الراوي: “تأمّلتها بهدؤ، وقد أضحت فجأةً على بعد أميال مني، ثم أجبتُ بصوت خافت، وليس في نيّتي الإقناع : ” هل تخافين انتِ الأموات؟”، وأضفتُ : ” أنا أحّبُ الأموات وارتاح إليهم، وهم، في أي حال، أحياء عندي. وأنا لا ارى الحدّ الفاصل بين الأحياء والأموات، ولا أعرِفه قطّ “.
ثمة عبارة في هذا الكتاب، أودّ التوقف عندها في صورة خاصة. حين سألته كلارا مرّةّ إذا كان يؤمن بالروابط الخفيّة، أجابها الراوي: “إنّ الروابطَ الخفيّة كامنة في عمق كل الفنون وكل العوالم الجماليّة”(صفحة 70). استوقفتني كثيراً هذه العبارة، وأحسّستُ وكأنّ الكاتب يقرأ افكاري. وإذا نظرنا إلى رواية “آخر الأراضي” من وجهة المفاهيم الموسيقية، نجد العديد من “الروابط الخفية” بينهما. ترتكز الموسيقى على ثلاثة عناصر أساسية : الميلوديا (اللحن)، الهارمونيا، والإيقاع. فلحن الموت لا ينفكّ يلازمنا ويرافقنا على مساحة الكتاب، تنتقل أسراره وأطيافه من مقطع لآخر، ومن فصل لفصل. أحياناً يفعل القدَرُ فعلته مع هذا وذاك من الذين يسقطون، وأحياناً أخرى، يتعايش الذين سيغيبون مع هارمونيا الموت. ويسيرُ إيقاع الموت بطيئاً حيناً، كما في نزاع سميح العارف الأخير، الطويل، الذي تتخلّلُه غيبوبات ويقظات، حتى لحظة النهاية، وسريعاً، حاسماً، في حينٍ آخر، كما الضربة الواحدة، في حادثة موت ابن سارية مراد، أو بين الإيقاعين البطيء والسريع، كما في غرق رئيف زين. ولم تفارقني “المسيرة الجنائزية” لشوبان لحظة واحدة، وأنا أتابع جنازة الست ماريا وابنها الشاب، وقد احتفظتْ بجثمانه في بيتها لسنوات طوال، رافضة دفنه قبلها، قائلةً : “لن يخرج قبلي من هذا الباب”. وفي النهاية، خرج التابوتان، تابوتها أولاً، ثم تابوت ابنها بعدها، ببطء، نحو مثواهما الأخير.
وختمت”أكاد أرى رواية “آخر الأراضي” لأنطوان الدويهي، عبر”الروابط الخفية” نفسها، مندرجة بين أعمال باخ وشوبان وليست وموزار، وسواهم من كبار المؤلفين الكلاسيكيين، الذين شكّل سر الموت إلهاماً عظيماً لهم، فأبدعوا في كتابتهم الموسيقية عنه، ووضعوا له القوالب الموسيقية المتنوعة، من عصرٍ لآخر.
أودُّ الإشارة في النهاية إلى اندهاشي، حين قرأت، على ضفتَي غلاف هذه الرواية، شهادات هذا القدر الكبير، والمتنوِّع، والرفيع، من الأدباء والمفكرين والنقاد، في أدب الدويهي، ما جعلني عاجزة عن أي إضافة. فليس ما يُضاف حقاً. لذلك سأختم مداخلتي، مستعينة بكلمة لمفكرِ الموسيقى ومنظّرِها الكبير، ألكسندر سوريل، أوجّهها إلى صاحب “آخر الأراضي”: “فيما يخصُّ ملَكَة الإبهار، فهي مرتبطة بسر الفن، وهو امرٌ لا يمكن تعلّمه ولا اكتسابه. ولحسن الحظ أنه كذلك”.

بولس خوّام

وتحت عنوان “آخر الأراضي، التي تصبح ملكك إلى الأبد”، جاء في كلمة الرسّام بولس خوّام:
“حين قرأت رواية أنطوان الدويهي “آخر الأراضي”، وجدت ذاتي داخلاً إلى معبد،أو متحف، متنقلاً بين لوحة فنية من هنا وصورة من هناك، مغموراً بالجمال، غارقاً حتى أقاصي نفسي، هناك،حيث تُكتَب وتُرسَم الأشياء، ناصعة، نقيّة، بأدق تفاصيلها. هكذا رأيتُ نفسي، انا ايضاً، مستقلاً هذا القطار، من مدينة السين إلى مرفأ سولاك، في رحلة إلى عمق داخلي. في كل محطة يرتسم وجه، هو صورة مستمدة من أعماقنا، فيما تغيب كل الوجوه الأخرى، وتصبح أطيافاً يلفها ضباب الخارج، الذي لم ولن يتبدّد، حتى تغرق في هذا الشتاء الأبديّ حتى الأمّحاء. وحده يبقى الوجه- اللوحة.مشاهدات لا حصر لها في قطار البحث المضني عن كلارا. “حين توقف القطار في محطته الثالثة، بانتْ عن يميني قرية في أسفل الغابة، كثيرة الرونق،عميقة الهدؤ، يجتازها نهرٌ صغير، ويحوطها الضباب الرهيف نفسه. بدأالمطر يهطل رذاذاً.نزلتِ السيدة المسنّة وفي يدها مظلتها بعد ان ودّعتني بابتسامة عذبة، كثيرة الخفر، كأنها أدركت ما أشعر به نحوها. قلت في نفسي : “هذه هي قريتها”.دقت ساعة المحطة الثامنة صباحاً. تمنّيت لو أستطيع البقاء بعض الوقت في تلك القرية، فأسير في أزقتها، وأتأمّل نهرها من على أحد جسورها، وأكتب في أحد مقاهيها، وأدنو من سرّها وألج روحها”. كذلك وصفه شجرة الحور الكبيرة، صديقته السريّة، والعالمة، أكثر من أي كائن آخر، بأحوال ذاته، وهي “تمثل” امامه من وراء بلور النافذة الفسيحة في صالة الشاي في حديقة لوتيسيا. هي مدركة تماماً لما حولهان عارفة بما يجري . تدخل شجرة الحور إلى روحه ويدخل إلى روحها، فيصبحان كأنهما معاً في عرزال بلوري في حرش أفقا، بلدة الجبل والصيف، يضحى ملجأ له”.

وتابع خوّام”مشهد من مشاهد مرسومة، كثيرة التنوّع، لا حصر لها، تسكن هذه الرواية. ما يميّزها أن الروائيّ لا يرسمها وهو ينظر إليها، بل بعد زمن طويل – ربما هنا بعد أربعين عاماً- كما أضحت “ماثلة عميقاً في فسحة ذاته”، كما يقول، فلا تعود هي مشهداً خارجياً قط، بل مشهد داخلي، مستمدّ من عالم المشاعر والرغبات والأشواق. كمالدى كبار الرسامين الانطباعيين، الذين ادخلوا أهم ثورة إلى تاريخ الرسم، حين نقلوه من محاكاة الطبيعة الخارجية، إلى التعبير عن داخل الذات. كأن أنطوان الدويهي يلتقي ، من دون ان يدري، مع كلود مونيه حين يقول ما معناه : ” لا ترسموا المشهد وهو أمامكم. أغلقوا عينيكم واحملوه في داخلكم وارسموه بعيدا عنه وفي غيابه”. ليس المشاهد وحدها، بل شخصيات ساحرة كثيرة هي أيضاً، يدخلها الدويهي إلى ذاته، إلى مشاعره، فينزع عنها كل زائد، فيجلوها ويعيدها إلى جوهرها، إلى حالتها الأولى، بهية، شفافّة المعالم. كانها كلها أيضاً، موضوعة تحت عبارة “لا حكم عليه”، فهي متحرّرة من الأحكام، حتى تلك التي تحمل الشر في ذاتها، مرؤوفٌ بها. كلها، منتشلة من واقعها، ومعلقة، ايقونات في متحف ذاتنا خارج الزمن. فالعابر “لا يحكم ولا يدين”، كما جاء في الصفحة الأولى من “كتاب الحالة”، كتابه الشعري الكبير”.

وأضاف”هكذا، بينما تدخل كتابة الدويهي إلى الأعماق، وتتصل فيها بجوهر الأشخاص والأشياء، تحوّل مضامينها وأشكالها، من الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي، وهو أيضاً ما يجعل هذه الكتابة تغرّد خارج السرب. وانا لا أغالي إذا قلت بأن مجمل هذه الرواية مصوغ من تلك “اللحظات التموهّجة”، او” اللحظات المضاءة”، التي يرى فيها الدويهي جوهر إبداعه الكتابي، وهي في دورانها، بصورة خاصة، حول هاجس الموت، وبحر أسراره السحيق، تنقل إحساساً جمالياً في حالته القصوى، يملأ الذات من أقصاها إلى أقصاها. العلاقة وثيقة بين الفن والموت. فوحده الغوص في الشعور الجمالي إلى أقصاه، ووحده الغوص في “اللحظة المتوهّجة” إلى أبعد أبعادها، يمكنه جلاء سر الموت”.

وختم “ومع أن الدويهي يرفض التفسيرات الفلسفية لأعماله، ولا يرى من علاقة بينهما ، ويقول بأنه مجرّد شاهد (“ما أنا إلا شاهد. أشهد لما أنا فيه”)، وهو لا يرمي الوصول إلى أية حقائق، يتم تعميمها، كما في حال الفلسفة، ولا إلى أية أفكار- عقائد. أكثر من ذلك، يقول إن الأفكار هي العنصر الأقل شأناً في أعماله، وهي تأتي بعيداً، تحت المشاعر والهواجس والأحلام وعوالم اللاوعي، التي هي الأهم لديه. مع ذلك ، يمكننا القول إن” آخر الأراضي” لا تقع في العبثية، ولا في التشاؤم النهائي، إذ تحمل في نهاية المطاف الدعوة إلى الحياة. وأودّ ان أنقل، في هذا المجال، المقطع الأخير من حوار الراوي معطلاب “المعهد الملكي” : “ثمّ كان سؤالٌ آخر(…) وجّهته فتاة، أقرب إلى سنّ المراهقة، بصوتٍ خفيض، شاخصة إليَّ من وراء نظارتيها المستديرتين: “سيدي الزائر من الشرق، أتصوّر ان كتابتك تحملُ شعوراً قويّاً بالعبثية، أليس كذلك؟”. أجبتها: ” لا أعتقد تماماً ذلك. هو ربما الشعور بمأسوية الحياة البشرية”. سألتني حينئذٍ: “هل ترى ان الحياة تستحق أن تُعاش؟”. أجبتها: “على الرغم من مأسوية العلاقة مع الزمن، وهذا الشيء الرهيب الذي هو وعي الموت، وهشاشة الجسد البشري التي لا تُحتمَل، والعجز المضني عن ضبط الاحتمالات، أرى أن الحياة مُفضَلة على العدم”.

 

 

IMG-20170731-WA0017 IMG-20170731-WA0018 IMG-20170731-WA0017 IMG-20170731-WA0016 IMG-20170731-WA0015